يعد العنف في المجتمعات الحديثة من أخطر الظواهر التي تهدد البناء الاجتماعي وتزرع الخوف وتضعف الروابط بين الأفراد والجماعات. كما تشكل الجريمة مظهرًا صادمًا لهذا العنف عندما يتجسد في انتهاك متكرر للقانون وتعدٍّ على حقوق الآخرين.
ولأن العنف والجريمة لا ينشآن من فراغ، بل هما نتاج بنى اجتماعية مختلة وسياقات تاريخية وثقافية معقدة، فإن التناول السوسيولوجي لهما يمكّن من فهم الأسباب العميقة لهذه السلوكيات، واستكشاف سبل معالجتها بطريقة شاملة ومستدامة.
إن علم الاجتماع، بما يتيحه من أدوات تحليلية، لا ينظر إلى المجرم باعتباره شخصًا شريرًا بالفطرة، بل كنتاج لوسط اجتماعي معين، ولسيرورة من التهميش أو الحرمان أو العنف الرمزي الذي يدفع الفرد إلى الانحراف.
ما هي العوامل الاجتماعية التي تفرز ظاهرتي العنف والإجرام؟
وما حدود المقاربات التقليدية في فهم الظاهرة؟
ثم كيف يمكن من منظور علم الاجتماع صياغة حلول وقائية وإدماجية تعالج هذه الإشكاليات وتحد من امتداداتها داخل المجتمع؟
أولًا: تعريف الظاهرتين من منظور سوسيولوجي
العنف هو كل سلوك يلحق ضررًا بالآخرين، سواء كان ماديًا أو معنويًا. قد يكون عنفًا فرديًا أو جماعيًا، مباشرًا أو بنيويًا، صريحًا أو رمزيًا.
الجريمة هي خرق متعمد للقانون، يهدد النظام العام وتُعاقب عليه الدولة. لكنها من زاوية علم الاجتماع لا تُختزل في الفعل فقط، بل تُفهم كظاهرة اجتماعية ذات دلالات مركّبة ترتبط بالبنية المجتمعية والثقافة السائدة.
ثانيًا: أنواع العنف والجريمة
عنف أسري: يشمل العنف ضد المرأة والأطفال، وينتج غالبًا عن الفقر أو انعدام التوازن في السلطة داخل الأسرة.
عنف مدرسي: حيث يُصبح فضاء التعليم مسرحًا للعدوان بدلًا من التنشئة.
عنف رمزي: يمارسه المجتمع أو السلطة عبر الإقصاء أو التمييز الطبقي أو الجندري.
جرائم اجتماعية: مثل السرقات، التعدي، القتل، وهي ناتجة عن بيئات تتسم بالحرمان وفقدان القيم.
الجرائم المنظمة: كالاتجار في البشر والمخدرات، وتُعد نتاج تلاقي العنف بالمال والنفوذ السياسي أو العابر للحدود.
ثالثًا: الأسباب الاجتماعية للعنف والجريمة
الفقر والهشاشة الاقتصادية: يولّدان الإحساس بالغبن ويدفعان البعض إلى السرقة أو العنف كوسيلة للبقاء أو الاحتجاج.
التهميش وفقدان الاعتراف الاجتماعي: يدفع الأفراد للبحث عن هوية داخل مجموعات منحرفة.
الحرمان من التعليم الجيد: يحرم الإنسان من فرص الاندماج في المجتمع.
ضعف الروابط الأسرية وغياب القدوة: يؤدي إلى تفكك الضوابط الذاتية.
الإعلام والأنترنت: عند غياب الرقابة، يمكن أن تروج للعنف وتخلق نماذج مريضة.
رابعًا: المجرم في منظور علم الاجتماع
يعتبر السوسيولوجي الفرنسي إميل دوركايم أن الجريمة جزء لا يتجزأ من كل مجتمع، بل إنها تلعب دورًا في كشف الاختلالات ودفع المجتمع إلى إصلاح نفسه.
أما بيير بورديو، فيُفسر انحراف الأفراد بكونه نتيجة لـ”العنف الرمزي” الذي تمارسه الطبقات المهيمنة، مما يولد عند الطبقات المهمشة نوعًا من المقاومة تتجلى أحيانًا في الجريمة.
روبرت ميرتون بدوره يميز بين “الوسائل المشروعة” و”الوسائل غير المشروعة” لتحقيق الأهداف، حيث يلجأ بعض الأفراد للجريمة حين تغلق أمامهم الأبواب القانونية.
خامسًا: سبل المعالجة المجتمعية
إصلاح السياسات العمومية لضمان توزيع عادل للثروة والفرص.
تعزيز التربية على القيم داخل المؤسسات التعليمية والدينية والإعلامية.
برامج تأهيلية وإدماجية للمجرمين السابقين بدلًا من النبذ والعقاب فقط.
فتح فضاءات ثقافية ورياضية وشبابية للتنفيس عن الطاقات.
تكوين رجال السلطة والأمن على التواصل الإنساني واحترام الحقوق.
تشجيع البحث العلمي في علم الجريمة لتوجيه السياسات العمومية.
إن مواجهة ظاهرتي العنف والجريمة لا يمكن أن تتم فقط عبر الوسائل الزجرية، بل تقتضي تدخلًا عميقًا يطال بنية المجتمع وقيمه ومؤسساته.
من هذا المنظور، يقدم علم الاجتماع أدوات ثمينة لفهم الظاهرة في تعقيداتها، ويقترح سياسات اجتماعية دامجة، قوامها الوقاية بدل القمع، والإدماج بدل الإقصاء، والعدالة بدل الانتقام.
ولا شك أن مجتمعًا يعالج أوجاعه الاجتماعية بالعلم والحوار هو مجتمع يسير نحو الأمان والاستقرار والعدالة.
تعليقات
0