المصطفى شقرون صحفي مهني مدير نشر صحيفة الحكمة بريس
في خضمّ الدينامية السياسية والتدبيرية التي تعرفها المؤسسات المنتخبة، تبرز ظاهرة تثير الكثير من التساؤلات، وتُفرز اختلالات في التسيير وتبذيرًا في الموارد، وهي ظاهرة “التفكير الحلقي” أو “نفي النفي”، حيث يعمد كل مجلس جديد إلى هدم ما أنجزه سلفه، لا لشيء سوى لأنه صادر عن خصوم سياسيين أو عن توجهات مخالفة. فهل نحن أمام خلل في الرؤية أم في الوعي الجماعي؟ وأين هو التفكير الطولي الذي يراكم ويُقيِّم ويُصلح بدل الهدم وإعادة الانطلاق من الصفر؟
لماذا يسود التفكير الحلقي في تدبير الشأن المحلي داخل العديد من المجالس المنتخبة؟ وهل يمكن للتفكير الطولي أن يُشكّل مدخلًا عقلانيًا لتحقيق التنمية المستدامة وتفادي هدر المال العام؟
في علوم المنطق، يُعدّ “نفي النفي” عملية تؤدي إلى العودة إلى نقطة البداية دون تقدم فعلي، ويشبّه المفكرون هذا النمط من التفكير بما يُعرف بالدوامة أو الحلقة المفرغة. وهو بالضبط ما يحدث في واقعنا المحلي؛ حيث لا تسير الأمور تصاعديًا عبر التقييم والتقويم والتراكم، بل تتحرك في حلقة مغلقة تبدأ بالنفي وتنتهي بالنفي.
يأتي مجلس جديد، فيرفض كل ما أنجزه المجلس السابق، لا ينظر في التقارير، لا يقيم المشاريع، لا يبحث عن أوجه النجاعة أو القصور، بل يرفع شعار القطيعة الشاملة، فيشرع في الهدم وربما إعادة نفس المشاريع بصياغة جديدة فقط لتُحسب له سياسيًا. وهكذا، تُهدر الأموال، وتضيع الجهود، ويُصاب المواطن بخيبة أمل جديدة.
في المقابل، يُعد “التفكير الطولي” منهجًا عقلانيًا قائمًا على التراكم الإيجابي، حيث يُنظر إلى ما تم إنجازه، يُفرز الجيد فيُحافَظ عليه، ويُصحّح المعوجّ، وتُستثمر الدروس لتجاوز الأخطاء السابقة. هذا النوع من التفكير لا يخدم فقط مبدأ الاستمرارية، بل يعزز النجاعة ويُكرس ثقافة العمل المؤسساتي.
لقد أفرز الواقع الجماعي المغربي العديد من الأمثلة على مجالس بدأت مشاريع تنموية واعدة، فجاء خلفها فقط ليجهضها أو يوقفها، لا لعيب موضوعي فيها، بل لمجرد أنها “لا تُحسب له”. وبهذا يستمر الهدر المالي والزمني، وتُحبط الكفاءات المحلية، ويغيب الأمل في تنمية حقيقية.
لا يمكن لأي تنمية أن تتحقق وسط دوامة التفكير الحلقي ونفي النفي. إن المطلوب هو تبني ثقافة سياسية جديدة ترتكز على التفكير الطولي، وتقدير العمل السابق، وتشجيع التراكم الإصلاحي. فالتسيير المحلي ليس حلبة للصراع، بل فضاء لبناء المشترك، وتكريس خدمة المواطن. ولعل من الحكمة أن نُفكر طوليًا، لا حلقيًا، فذلك هو السبيل الوحيد لبلوغ تنمية عقلانية ومستدامة.
تعليقات
0