زمن اختلال القيم: عندما يربح الغشاش ويُقصى الشريف

بقلم: المصطفى شقرون – صحفي وباحث في قضايا المجتمع
تتسارع الأيام، وتتناسل الوقائع، فنجد أنفسنا في زمن لا يشبه ما تربينا عليه. زمن تختلط فيه المفاهيم، وتُقلب فيه الموازين، ويصير الرديء جيداً، والجيد متجاوزاً أو منسياً. كم من كفاءة همشت! وكم من انتهازي تسلق السلالم بلا جهد! هذا زمن لم تعد فيه الكفاءة مرتبطة بالاستحقاق، ولا الصدق شرطاً للنجاح، ولا الأخلاق معياراً للتقدير. نعيش مفارقة مؤلمة: الغشاشون يربحون، والمتقنون يُقصون، وأصحاب المبادئ يُوصفون بالبلادة أو السذاجة.
ما الذي يجعل المجتمع يطرد الأفضل ويحتضن الأسوأ؟ هل هو ضعف الوعي الجماعي؟ أم خلل في المنظومة الثقافية والسياسية؟ أم أن اللعبة أصبحت محكومة بشروط لا علاقة لها بالقيم؟ أين موقع “المعقول” في زمن بات “اللا معقول” هو القاعدة؟
ألاحظ كصحفي أن المشهد العام – سواء في الإعلام، السياسة، الإدارة، أو حتى في الحياة اليومية – يعاني من تراجع مقلق للقيم. يُحتفى بالمنافقين لأنهم يعرفون من يُرضون، وتُغلق الأبواب أمام النزهاء لأنهم “لا يعرفون اللعب”. صرنا في زمن لا يُنجذب فيه الناس إلى المبادئ، بل إلى من يحقق مصالحهم.
كثرت التساؤلات التي تلح علي :
هل نحن فعلاً نعيش زمناً تتفوق فيه الرداءة على الجودة؟
من المسؤول عن هذا الانقلاب في المعايير؟
هل فشلنا في تنشئة أجيال تضع القيم فوق المصالح؟
لماذا يُقصى الشريف باسم الواقعية، ويُكافأ الانتهازي باسم الذكاء؟
وهل صحيح، كما يُقال، إن الغشاش هو الوحيد الذي يربح في اللعب؟
قراءتي في الواقع:
الفضلاء اليوم يتوارون، لا لأنهم غير قادرين، بل لأنهم لا يملكون نفس أدوات الصخب التي يملكها غيرهم. الأخلاق لا تصرخ، والحق لا يُشهر بنفس الصخب الذي يُشهر به الباطل. ومع ذلك، لا يزال هناك من يصمد، من يزرع دون أن ينتظر التصفيق، من يرفض أن يبيع ضميره، ولو خسر كل شيء. هؤلاء هم رهان المستقبل.
و ختاما:
لا يمكن أن نقبل بهذا الواقع كقدر. فحتى وإن بدا أن الغشاشين هم الرابحون، فالتاريخ، في نهاية المطاف، لا يخلد إلا الصادقين. مسؤوليتنا نحن – كإعلاميين، مثقفين، ومواطنين – أن نعيد الاعتبار للمعايير الحقيقية. أن نُعلي من شأن الاستحقاق والكفاءة والنزاهة. أن نقاوم بصوتنا وقلمنا، لأن الصمت في مثل هذا الزمن خيانة. فليكن قلمنا شوكة في حلق الرداءة، ولتكن كلمتنا سلاحاً في وجه كل متسلق، حتى يعود “المعقول” إلى مكانه الطبيعي، ويعود النبلاء إلى الواجهة.
تعليقات
0